الدعوة عامة


لا نقابل أشخاصاً في العادة كالأستاذ" زيتون " إلا إن حالفنا حظ زاهٍ ، و كنا من أصحاب الدروب الخضراء ، بل و نكون محظوظين حد التباهي، إن عرفنا واحداً ممن حادثهم، و لن يستهان بمكانتنا إن وجّه في يومٍ لنا نظره ، .

و لا تعتقد البتة ، أنك لا تستطيع الوصول إليه ، أوصافه و خصاله أبد الدهر ، و لدى الجميع غدت مقرراً محفوظاً ، فالباحثون عن وظائف يقدّمونه من المعرّفين في سيرهم الذاتية حتى لا تبقى طلباتهم في الحواشي أو حبيسة الأدراج .

و الراغبون بترقيةٍ وظيفية ، و مرتبة أسمى ، يدّعون قربهم منه ، بصداقة أو بزمالةٍ أو بحكم الجيرة .......إلخ.

وحتى يجاب الطلب ، في جاهات الزواج و الخطبة ، ويبارك لك بعروسك ، فما عليك إلا أن تتبرم بدعوى ، أن الأستاذ "زيتون"، صديقٌ قديمٌ للأسرة ، عندها ، و عندها فقط ، يصبح بمقدورك تجاوز أعتى العقبات ،  حتى لو كانت عروسك في بلدٍ آخر .

و للحصول على تأشيرة سفر ، تغدو الأمور أسهل بكثير ، إذا ما أرفقت بطلبك ، ورقةً ممهورةً بإمضائه ، أو صورةً " فوتوغرافية " ، أخذت لك معه ، أما إذا رافقك شابٌ ، و برع في انتحال شخص "زيتون" ، فأمورك دون شك تصبح أيسر و أكثر سلاسة .

على أية حال نحن-البشر- بدونه " لا شيء"  ،.......

و تتوقف رغبتنا في أن نكون أشياء ً على مدى معرفته ، ونصنّف في حياتنا حسب متانة علاقاتنا معه، و طبيعة هذه العلاقة .

على الرغم من كل ذلك ، فلا أحد يعرف "زيتون" المعرفة الحقّة ، فلم يحدث و اجتمع نفرٌ ، إلا و بدأوا يرسمون له صوراً وليدة خيالاتهم ، و يصنعون خطوطاً عريضةً لشخصه ، وهذا يعني أننا في جلساتنا نبتعد قليلاً أو كثيراً بحثاً عن غوامض نحلم بإدراكها ، و لن تخلو بالطبع جلساتنا من منازعاتٍ ، سببها غياب التوثيق حول ما يختصّ بمعرفة زيتون .

فعلى ما أذكر ، أنه قد نشب غير مرّةٍ بين الأزواج في حينا ، خلافاتٌ وصلت في ذروتها حد التفريق ، تمخضت جلّها عن جدالاتٍ حادّة مردّها استنباطاتهم و محاولات استكشافهم ماهيّة "زيتون".

في منتصف نيسان تقريباً ، هرع القاصي و الداني لشراء الصحيفة اليومية التي نقلت خبراً مفاده ، أن زيتون ، سيكون حاضراً بيننا خلال أيام ، لقضاء عطلته الصيفية ، سألت حينها :

-ماذا يعمل ؟

لا أحد يجيب ، لإنهم لا يعلمون .

قلوب الجميع تخفق بقوة ، وجوههم تزداد اصفراراً كلما اقتربت ساعة قدومه ، يحلّ بيننا ، وفي اليوم الأول ، لم يذكر أحد أنه شاهده ...

ابتعدت عن النافذة ، التي أترصد من خلالها ، عساي أسمع أو أرى ، من يقودني نحوه ....

أدلّك قدماي اللتان أصابهما الخدر ، جرّاء وقوفي طويلاً على النافذة ، تناهى لي من حيث فراشي القابع في زاوية الغرفة ، صوت ضحكةٍ مخنوقة ، أحسست أن زوجتي تضحك نكايةً بي فقط .! تابعت المشي نحو الغرفة ، شققت الباب ، كاد لساني ينعقد ، زوجتي تحتضن صورة "زيتون" ، في الصحيفة ، تتمثله بجانبها و هي عاريةٌ تماماً ، كانت تضاجع صورته .......!!!!.

تعاظمت حبات العرق فوق جبيني ، وغرق شاربي تحت شفتي السفلى ، تسمرت في مكاني ...

تلّة من الخجل تراكمت تحت عيونها ، خالجتني أفكارٌ كثيرة ، و قاومت شعوراً عنيفاً داخلي ، يدفعني لقتلها ، طفحت عيناي غضباً ، ألقيت بالمستقبل جانباً و قلت مفجوعاً :

-بنت ليل ، بائعة هوى ، أنت طالق ......

انفجرت بالبكاء ، لملمت حاجياتها ، و ارتدت خمرها و جلابيبها و خرجت ، صفقت الباب ورائها ،...

تفتحت أساريري و حدّثت الجميع بصنيعها ، وافقني الكل بفعلتي ...

عند عودتي في اليوم التالي ، خشيت أن أتذكرّها ، فترتسم علي حسرة التسرّع ، حدثت نفسي :

-هي تفكر فيه منذ زمنٍ طويلٍ أذن ، إذا رأيته سأدمي أنفه ، أقسم أني سأشقّ رأسه .

و حتى لا أعاود التفكير في الأمر ثانيةً، ذهبت في اتجاهٍ معاكس، استوقفتني الأضواء في وسط المدينة ، صعدت درجاً لا أعرف أين تؤدي نهايته . شفتاي مهدّلتان ، أزيد من سرعتي و أخففها كأني على متن سفينةٍ تائهةٍ وسط البحر ، لمحت موظف أمن ، سألته بتوجس:

- معذرةً سيدي ، إلى أين يفضي هذا الدرج ؟

-حسناً،  هناك في الأعلى أفضل الحانات في المدينة على الإطلاق ، مجانين ، مخمورون ، راقصات ، حاذر أن تسقط في الأعلى .!

قاطعت اسهابه و سألته :

-و هل يوجد حقاً مجانين ؟

-طبعاً ، جميعهم في الأعلى مهووسون ،

شكرته ، و تابعت صعودي ، نحو الحانة ، شققت طريقي عبر ازدحام الناس و جلست على كرسيّ خشبيّ ، استغربت أنه فارغ ، سرعان ما سقطت عنه ، كان بثلاثة أقدامٍ فقط .

ضحك السكارى ، حتى تشنجّت عظام رقابهم ، شعروا بالتعب ، فأزاحوا وخز عيونهم عني .

قهقه الجميع ، وصرخوا بصوتٍ واحد :

-                                نخب الحياة الأفضل ، نخب "زيتون"

-                                خرجت راكضاً ، عابراً دهاليز طويلة ، كأني أقود شاحنةً على طريقٍ صحراويّ. 

اعتقدت أن نومي سيكون وردياً هذه الليلة ، و بلمح البصر ، وجدت نفسي أمام باب شقتي .

" لو كان معي صاروخٌ ، لفجرت الحانة "

ولجت في برهة شرودٍ ، ثمّ غصت في تأملٍ ، و تخبطت متنقلاً من فكرةٍ لأخرى ، مددت جسدي على الأريكة ، و نمت وحيداً.

في اليوم التالي ، زعزع نومي بريقٌ عجيب و لألاء ، نفرت كالجرادة عن الأريكة ، نظرت لنفسي في المرآة ، شطفت وجهي ، بدأت صباحي بلفافة تبغٍ و ركوة قهوةٍ تبعتها بلفافةٍ أخرى ، و ثالثة و رابعة ........حتى تأكدت أن الركوة لم تعد فيها نقطة ٌ واحدة ، لم أعد أحتمل تأنيبي لنفسي ، فقصدت أهل زوجتي لأعيدها ...

نمّقت جملاً كثيرةً لإقناعهم ، قبل أن أصل أليهم ، و أمام بابهم ، نفضت الغبار عن سترتي ، مسحت حذائي ثم قرعت الجرس .

فتح لي والدها ، و كأنه كان ينتظر قدومي ، أمطرني بشتائم فظة ، لم أعرفه قط صليت اللسان هكذا ، .

حاولت استوقافه ، لكنه أسكن لساني حلقي ، قال زاجراً:

-أنت لا تستحق أن نعطيك قطتنا الصغيرة .

رسم ابتسامة ، و ضحك فجأة ، ثم قال :

-على أية حال ، انتهى الأمر ، لقد تزوجت

- كيف ؟

-نعم ، لقد تزوجت

-لكن كيف ؟ و من يجرؤ؟

لفّ وجهي نحو الشارع ، و دفعني من الخلف .

 

كانت دعوة الزواج عامة ، لكل أبناء الشعب و طوائفه .

دست على ما بقي لي من إحساس ، ألقيت بالكرامة جانباً ، و فرضت نفسي على جموع المدعوين ، حتى لا أبقى الوحيد الذي لا يعرف "زيتون ".

             

                                    الدعوة عامة

 

 

 

عودة