بمعنى آخر


لما غصت و اضطربت مع أمواج متلاطمة ، طمحت بوهج ، امتزجت بي حالوميتي و خيالاتي ، و سيقت قدماي نحو عهدٍ سرابيٍّ أول ، و اقترفت جرماً، تقدمت للأمام ، و عندما رأيت نفسي آخذاً بالتقدم ، و معتلياً قمة عشقٍ مجهول ، لحق بي ضابط (الواقع) الذي يعلق على كتفه نجوم المنطق و فلسفة الحسابات الاجتماعية .وشدني من الخلف ، فشقّ قميصي و نزع جلد الظهر و سالت تحت أظافره دمائي ، أرجأت عنقي ، و أدرته نحوه ، و نفثت في وجهه : ماذا بك ؟ ماذا تريد ؟

شنق كلماتي ، و باستعلاءٍ أجابني :

-                    أين تغوص ، أين وجهتك ؟ تأففت و نظرت لدمائي بين أصابعه و قرأت استجوابه في ذهني ثم علكت كلماتي و لم اجبه ، و أزحت وجهي عنه ، فأردف : أعلم أين تذهب !!، لقد سئمت-بحكم وظيفتي- ملاحقة أمثالك ، أنتم من تلبسون الخيال ثياباً حقيقية . و تجنحون بقرائحكم ، و تنسجون بيوتكم من العاطفة ، وتنسون جوائحكم و مصائبكم . لَكَم هزيلون انتم !!! . قطعت سيل كلماته :

-                    - كلما رآني أحدهم و علم ما بي ، نعتني بالجنون ، و بأني سرابيّ محلّق حالم ، لست بحالم لكنّي أتأمل كي لا اتألم . أؤجل الآلام  و أعبث بالآمال . احرق ساعاتي وأدمل جروح زمني ، بعنفوان عشقي و هوسي ، و إذا ما لاحت لي بارقة أمل شكرت الله و أعددت العدّة ، و مضيت أهوى و أروّي مهجتي بحلمٍ جديد ، كم أنا مدمن على الحلم ؟

حرك رأسه ونظر للسماء وأخرج من جيبه علبة ثقابٍ و بدأ تكسيرها  و هو يقول :

-                    أعرف قصتك تماماً  كما تعرفها أنت . تحب إحداهنّ وهي مشغولةٌ بغيرك ؟! هذه ببساطة قصتك كلها . و هي أشبه بعيدان الثقاب تلك .؛ رغم أن وظيفتا أن تشعل و تضئ ،إلا أنّ مخبولاً مثلك قد يصنع بها مثلما أفعل الآن . إنك تكسرها و تلقيها أرضاً لكنها إن لم تذبل أو تتعفن أو تغمرها أمطار الشتاء ، سيأتي- إن حالفها الحظ- من يلملمها مكسرّةً و يشعلها عوداً بعد عود .

ألا ترى من الأفضل و الأجدى تركها غير مكسورة ولا مشوّهة ؟ و يأتي غيرك ممن يستطيعون إضاءتها  و .. قاطعته صارخاً ، و نبرتي يستملكها حزنٌ ما : لكن جنوني و هوسي وهذياني لا يكسر عيداناً ، إنني أعيد ترتيبها خارج علبة ، حبست فيها لسنوات. أنفض عنها غبارها ، و أركنها أمامي لوحةً لا يتسلل لها إلا ودي و بعض القبلات . لم يكن ذنبي أنني لا أحب رؤية عيدان الثقاب خاصتي منثورة " محشوّة " داخل علبةٍ أُدخلت فيها عنوةً و إرغاماً ، عوداً تلو الآخر ، لتتجمع فيها ، و تكتشف أنها لم يكن لها خيار ، و كيف يكون لها ؟! و هي عيدان ضعيفة هزيلة ، وضعوها بين يدي عاملٍ ماهرحاذق في ترتيب العيدان لقد رصّها كما يريد في تلك العلبة . و مضى واثقاً أن لن يعيد ترتيبها أحد .بعبثٍ و همجيّة .و تقدّمت محاولاً إعادة الحياة فيها . هل العلبة مكانها ؟.. توقفت و أخذت نفساً، فسألني و كأنه استدلّ على طريقٍ لهزيمتي :

-                    و لكن لماذا تفترض أنه همجي عبثيّ، و أنت المنظم الهاديء ؟.

لم أعرف كيف أجيبه ، لكني قلت عندها : يا سيدي لقد استصرخت العيدان داخل العلبة فسمعتها تتأوه و تتوجع ، أدخلت نفسي في ذات العلبة ، عشت معها فيها ، أشعلت نفسي لأضيء لها ظلمةً ( غَلّفتُ المكان عليها ) .، وضع يده على كتفي و مضى يتكلم : لن تهزأ بي و لن تحارب من تهوى ، لن أطمئنك ، و سأجتر منك اعترافاً ، ألستم جميعاً جزّارون تحيطون بضحية ؟ ، تسنون عليها كل مديةٍ و سكين ؟ و تجهزون لها واجهتها في أكبر المحلات و المخازن ؟ و يتأجل موعد ذبحها يوماً و يومين و ثلاثة ؟ و هي صامدةٌ لا تخاف الذبح القادم ؟ و لا تريد استئصال نفسها من بين أذرعكم و أحضانكم و هي تعلم أنها ستذبح يوماً لا محالة ، إنك معتوه ، اعترف ! اعترف ! .

أجبت بعد دمعةٍ غطت وجنتي :

-لست معتوهاً صدّقني ، لكني موهوب في العشق . و فتاتي تغترف من حلقي الكلمات و تزرع جوفي بهيامٍ أترجمه بلساني المبتور .       …………………

صاعقة ،

صاعقة ..

انعكست من الأرض ، حيث العيدان ، إنارة و وهج أرغمتنا أن نصلّب أذرعنا لحماية عيوننا منه ،أمام العيدان ..

لقد نطقت العيدان ..

سمعناها تقول :

-                    لن يشعلني إلّاك ، رتّبني كما  تشاء . لنرتب أنفسنا في العلبة ..

 

 

 

 

عودة