مسحة


يذرع الردهة جيئةً و ذهاباً ، مسحةٌ من الوقار في وجهه ، مضطرب ، يتلصص بين الفينة و الأخرى عبر النافذة ، يصطنع الصبر على حاله ، الساعة تدرك الثامنة و لما تطل نورا بعد ، يمل غسان الانتظار ، يفقد دماثته و بروده ، يرفع سماعة الهاتف ، و يحدث نفسه و يصرخ باستنفار ، بينما تضرب سبابته على أزرار الهاتف ، يصمت و ينتظر ، وما ان يتسلل صوت نورا له ، حتى تنفجر هدأته ، و يصيح بنبرةٍ غاضبة :

-ما حييت لن أغفر إهمالك لي ، كنت أعوُّل على لقائنا هذه الليلة الكثير الكثير ،. يستردّ أنفاسه ، و يلقي بنظرةٍ إلى ساعته ، ويتابع :

-طوال سنة كاملة ن لم تصدقيني موعداً ، . لكنّها في الطرف الآخر ، اغتصبت ابتسامةً كالحة ، و موّجت شفتيها المصفرتين و سألته بنزق :

-ألا يعني لك ذلك شيئاً ؟

راوده شعورٌ أنها تفتك باستسلامه ، جمع كلماته و أجابها :

-بلى ، عنى لي الكثير ، سأواصل هرولتي بعيداً عنكِ ، أليس هذا ما تطلبين ؟ لملم نفسه و أرجع السماعة مكانها ، كانت عيونه ذابلةً ، أيامه تلك تستدر المواساة .

(نورا) آنفةٌ معتدّة ، لم توافق رأيه يوماً ، لا تستكين لحقّه و لا ترزح لصوابه ، تزجّ بلائاتها قسراً و فرضاً، تعشق دور البطولة ، تصنع الأحداث، و تحب تحريك المشاهد و تأزيم المواقف ، لتخرج منتصرةً ذروة المواقف التراجيدية .

سئم غسان ملاومتها ، وضجر من ذلك المنظر ، اكتشف بعد أسبوع  من تركها ، أنه استعاد إنسانيته ، واسترد نضجه ، ازدرى -بعد أن عرف (سارة)- لحظاته القاتمة بجوار نورا . و تسكعه في أزقة الأحياء و على مقاعد المقاهي ، و في زوايا المطاعم معها .

 

يحس لأول مرة أنه يهوى سارة بلا تردد…… سارة ، الخالية من الصلف ، بيضاء ، نقية ، صافية ، طاهرة ، يأخذ منها "حقنة الحب بالمجان ". هكذا قال لها ، حين التقاها قبل ساعة ،ودّعها ، اعتلى كرسيه في السيارة و مضى يضغط على زر التشغيل لمسجل السيارة و يبحر في تذكر لقائه معها ، و يسترجع كلماته لها حين كان يحدثها عن نورا :

-                    نحن الآن معاً يا سارة ، اعترف أني استبدلت التبر بالتراب  حين التقيتك و تركتها ،.

يفيق من أجمل غيبوبة ، يتنهد ، و يتوجه نحو صالون التزيين ، يجهز نفسه للقاء الغد ، يلازمه السهر و لا تساوره إغماضة جفن .

 

أعلنت ساعة المدينة الثانية تماماً ، يلج غسان المطعم الذي يغص بالجائعين الثكالى ، و العاشقين المتسمرين خلف طاولاتهم ، في مكانهم الحتمي المعتاد ، يتوجه عبر الصالة الرحيبة ، يتلفت برأسه و يجول بناظريه ، باحثاً عنها ، و على إحدى تلك الطاولات تجلس سارة ، ترسم أجمل لوحةٍ للأنثى ، شدته ابتسامتها ، طفق مسرعاً نحوها ، تلعثمت الكلمات في صدره حين واجهها ، تأنّى ، ثم استحكم على عباراتٍ متقطعة :

-مساء الخير ، كيف أنت اليوم ؟ اشتقت إليكِ..، أعجبته أناقتها ، وسلبته نظراتها ، نحت في ذاكرته باحثاً عما يبين ذهوله ، خاطبها بمجاملةٍ بدت صادقة :

-تبدين رائعةً اليوم ..!

هائمان ، تنتفض الصدور بنبضٍ يسطع على الوجنات ، يتأمل عيونها و محيّاها المشرق ، يستشرفان النادل يداخلهم بابتسامةٍ رعناء ، و يسأل بصوتٍ خفيض :

-                    لدينا الكثير اليوم ، ما رأيك سيدي ؟ ماذا تطلبون ؟ ..يجيبه غسان :

-                    ذات يومٍ ظننت القرار قراري ، لكنّه اليوم لسارة ، و أنا متيقنٌ أننا لن نختلف !

تبتسم سارة و تضيف ساخرةً:

-                    فلننتظر كلانا ، فقد يكون لنورا رأيٌ آخر .

تفجرت عندها الضحكات ، وانتعش المكان ، بعثت فيه الروح ، و عاتب غسانُ ماضيه .

 

 

 

 

عودة