مشيئة


إما أنني أعايش غربتي و توهماتي ، أو أن الحقيقة تجثم على صدري ، و تلغي حلماً سريرياً بنفسجي اللون ، ودّعت أسرتي ، ماتاعاً و خرجت.

بمجرد وصولي لمكتب البريد -حيث أعمل - كان الجميع ينتظرني ، وجوههم كالحة ، يرهقها التعب ، أحسست منذ البداية أن النهار قميء نكد ، ألقيت عليهم التحية ، ردوا عليها و شرعوا يضعةن الأوراق و الملفات المهترئة على مكتبي .

- هذا لك أستاذ رائد

-وهذا أيضاً.

كان علي لأن أدققها ثم أرسل بها للمكتب الرئيسي ،... كنت أحب أن أوصلها بنفسي ، رغم أن عملي لا يتطلب ذلك ، على بوابة المكتب الرئيسي ، يقف (أبو نايف ) ، يعدل دائماً عقاله ، يضبطه فوق كوفيته الحمراء و يبادرك مرحبّاً بلكنته البدوية و يعيدك سنواتٍ للخلف :

-حيّ الله ، تفضل ، أهلاً و سهلاً .

و بعد أن أمر على مكتب المدير و أعيد على مسامعه المداهنة اليومية، و النفاق الذي أشعر نفسي أعتدته ، تتحول وجهتي مباشرةً نحو غرفة  السكرتاريا ، حيث تعمل (ندى) ، نعومتها و لطفها و وجهها القمري البشوش يعطي المكان وهجاً و اتقاداً و بهجةً من نوعٍ فريد ، في منتصف العشرين من عمرها ، حاجبها يسيّج عيوناً تائهةً سادرة ، و تكتنز بين فكيّها أسناناً لؤلؤية البريق و صوتاً يذّكرني بشلّال هادر ، توقفني دائماً إذا ما تجاوزت حدي و أطلت النظر إليها ، أشعر أنها أيضاً توميء لي بأنها تريد مني ما أريد منها .

قبل أن ينقضي الربيع و تغادر آخر أسراب الحساسين ،...

 

بعد انتهائي من أخذ آخر رشفةٍ من فنجاني ، الذي أنذره نفسي كل صباح ، غادرت مسرعاً لأنقل الصادر للمكتب الرئيسي ، من ضمن   البريد كانت رسالةٌ تخصّ ندى ، لذا وصلت لمكتبي بسرعةٍ تفوق مقدرتي ، سلمتها الرسالة العاجلة

قرأتها ، أخذت تهلل و تطلب مباركتنا جميعاً ، و تنتقل من غرفةٍ لأخرى ، تفتح أمامهم المغلف ، طلبت إذناً للمغادرة .

-لن أغيب طويلاً ، سأجلب لكم ( الحلوان) في طريق عودتي .

تهامس الموظفون ، تناقلوا خبر عودة زوجها من السفر ،

غرقت في حالةٍ من الذهول ثم سألت :

-أهي متزوجة ؟؟؟؟؟؟؟

أكدوا أنها متزوجة .....

...............

وصلت البيت ، كان أصغر أبنائي بانتظاري ، نفسه يتسارع ، أمسك بكفّي متسائلاً:

-أبي ، هل صحيحٌ ما تقوله والدتي ؟

-وماذا قالت ؟

-تقول أنني مشيئة الله !!!!!

-و هي أيضاً مشيئة الله !!

- وما مشيئة الله ؟؟

-................

-و هل إخوتي أيضاً مشيئة الله ؟ظ

أطرق يفكر مرة أخرى :

-ما هي المشيئة؟ هل المشيئة جيدة ؟ هل هي شر ؟

-كفاك أسئلة !!

ثمة شيءٌ يراود الصبيّ ، و يراودني أيضاً،   و إذا ما استملك فكري استغفرت الله، و هززت رأسي كأني أنفض ما فيه .

قبل أن أنام جاءني الصغير ، و اقترب من رأسي و طبع قبلةً على جبيني و همس :

-ما دمت أنا مشيئة الله فأنت و أمي مشيئة الله أيضاً؟؟

أومأت بالإيجاب .

حكّ رأسه ، ثمّ غادر مشغولاً.............

 

 

 

 

عودة