قصبات محلقة يهذي
غياب الشمس أحياناً، يدوّي في لحظات الهدوء و
الصمت ، يرمي على المكان السبات و الغفلة ،
تلقي شباك الأفول بثقلها على المارّة ، لا
يتجاوزون العشرة طوال اليوم . الحي
أشبه بالسجون ، لا دخول ولا خروج ، تبني
الأحلام هناك بيوتاً في محاولةٍ خجولةٍ
لإخفاء أسرارها ... في
آخر الحي يزأر أحد البيوت ، ينصهر شيئاً
فشيئاً متجاهلاً قابعيه . - رغم أنني ضرير ،
إلا أنني أحسد نفسي على بصيرتي . يكررها
(أبو النمر ) دائماً ، يقولها مرات و مرات .. نظر
إليه الجميع باستغراب حين أشاح بوجهه عنهم
فزعاً ، تحدث بصوتٍ مرتفع محذراًمن شيءٍ ما ،
مشيراً إلى أحد الجوانب . -إنهم قادمون ،
أشتمّ رائحتهم ، أعرف مكانهم تماماً ،
يقتربون مني ببطء. اهربوا
بسرعة ، اهربوا أرجوكم . صاح
أحدهم و حديثه يتقطع و يتشرذم بضحكاتٍ تتعالى
: -كيف يشتم رائحتهم
؟ لقد جعله الهرم يخرّف ، غريب هذا العجوز ... لم
تحرك تحذيرات أبو النمر ساكناً ، كانو واثقين
أن الدنو من هذا المكان أمر شبه مستحيل ، عدى
عن ذلك فهم محصنون بعتادهم . أما
أبو النمر فقد نفر عن ذلك الكرسي الخشبي
القديم ، و راح يتحسس بيده اليمنى شيئاً ،... هي
عصاه ، محنيةٌ عند مقدمتها ، يجدها، يمسكها
بكلتا يديه ، يسخرها مستدلاً بها على مسربٍ و
طريق ، ثم مأوى ، لعله يفلت من خطرٍ محدق، ثم
ما يلبث أن يصل مهتدياً بعصاه لباب غرفته ؛ . تلمّس
بيده مقبض الباب ، ثم أمسك به و شرع بفتحه
ليدخل ، و قد غزى ضوءٌ نصف جسمه و أخذ يتسع
راقصاً على ثوبه المهلهل الفضفاض ، بدى كأن
ذلك الضوء يطرب لأزيز الباب الذي ما يفتأ يكبر
بصيص الضوء بهوادة . برويته
وحكمته ، رمى أبو النمر بظهره على الباب ،
موجهاً ذلك الوجه الشاحب المسن لمكان جلوسهم
، و يده ما زالت تمسك المقبض ، مختفية خلف ظهره كانه لا يريد أن ينظروها . أشار
بيده الأخرى نحوهم مهدهداً هواء الغرفة بعصاه
، و خرج عندها صوته الأجش عبر هواء كلامه و هو
يلهث .: -أنا أقول أنني
أحسد نفسي على بصيرتي ، اهربوا أرجوكم ،
وغلّقوا الأبواب جيداً بعد خروجكم ، أنا لا
أراكم ، لكني أراهم ، إن لم تتواروا سوف
تقتلون تباعاً. عدّل
وقفته ، ثم دخل الغرفة و أطبق الباب و أحكم
إغلاقه بالمفتاح ، ... سمع الرجال تكّات
المفتاح ، فانهاروا في ضحكاتٍ ضروس ، ضاربين
على أفخاذهم ، كأن ستارة مسرحٍ ضجّ
بالكوميديا و أغلق لتوه ، بدا صمتهم فجأةً
مريباً ، يحدق كل منهم بالآخر ، استوقفتهم
كلمات لربما علقت في مسامعهم ، و زاد من روعهم
تلك العتامة التي كانت بلا ريب إنما تدل على
انزلاق الشمس منحدرةً بعيداً
عن مرآهم . مد
أحدهم يده نحو الزجاجة و لف بها حول عنقها ، ثم
رفعها و صب في الكؤوس التي أمامهم ،
ليسوا إلا رجالاً بلا رؤوس ، كتلك الحملان
التي تتخذ زاويتها في محلات الجزارين ، تظهر
سراويلهم بالكاد، مثنية عند آخرها ، و صدورهم
معرّاةٌ تماماً . هناك
لا داعي للوجل ، كلهم قريبون من بعضهم ، رفعت
الأصابع الكؤوس ، نزل ما فيها شلالاً صغيراً
يرفد الهواء ، لا شيء سوى الهواء .أنصت الجميع
للمطق و القهقهات ، تداولوه واحداً ، واحداً،
أشبه بكتيبة يتلوا أفرادها أسمائهم تباعاً., بدأوا
الغرغرة بأحاديثٍ كانت أقرب للسعال و
النحنحات منها للكلام ، و زجاجة( البراندي )تتوسطهم
، كدميةٍ صغيرة تترنح من يدٍ لأخرى
وقد أوشكت على النفاذ، كلمات
متراميةٌ هنا و هناك ، يخيل للسامع أنهم
مقدمون على البكاء .: -ما كان علينا أن
نهرب هكذا -يا مجنون حتى
الحروب تكون على هذه الشاكلة . أليست كراً و
فراً ؟؟؟ -خليها على الله ،
نحن جبناء ، لم نفعل شيئاً ، لماذا نهرب و نلقي
بحملنا على ضريرٍ مسكين . -إنه يخاف ظله.! -لقد آوانا و أحسن
لنا -صحيح دبت
في الغرفة حيوية مباغتة ، كسر السكون حينها . وقف
أحدهم في زاويةٍ ، كالموخوز بإبرة
، أو كمن تلقى صفعة ....همس: -لم أر الشمس منذ
اختبائه ، قال أننا سنموت !! -لقد كانت
تتراقص فوق ثوبه . تصاعدت
عندها الضحكات الضارية ، حتى استرسلت الدموع
من شدة الضحك ، حدقوا طويلاً في ذلك النور
القادم من يمنة الغرفة ، سحب أقربهم للنور
مسدسه و صوبه نحو النافذة ، و اتجه نحوها بعد
تأملٍ لم يكن قصيراً أزاح جزءاً من الستارة
متلصصاً عبر فراغٍ أحدثه فيه ،......خفت صوت
الآخرين : -من، من ،من ؟! برز
صوت أحدهم : إنه ضوء سيارة ..، سيارات . .. أصوات
محركات .. ذهب
نحو النافذة ، ترك بصره عبر النافذة ، وقع
نظره على شخصٍ ما ، كأنما يعرفه آنفاً ، فتح
الستار كله ، ركض نحو غرفة أبو النمر ، كسر
الباب نظر
للداخل ، مشى للأمام قليلاً ،... نظروا
له ثم لحقوا به مهرولين ، دوى صوت طلقتين ،
حاولوا منعه ، جثتان ،؛همدت الأولى على أرض
المكان ، ودمها يسيل ، تضرب الدماء بقصاصة
صغيرةٍ كتب عليها " أول الغيث قطرة "،
بجانبها ترقد نظارة أبو النمر السوداء . نظروا
عالياً و أطالوا النظر ، شاخصين ،... على مستوى
رؤوسهم كانت أقدام أبو النمر تتأرجح ..... معلقا
من عنقه في الثريا . بدت الثريا كقصباتٍ تطوق
عنقه ، ينظر لهم و يبتسم ،.....وقّع شخص ما على
يسار القصاصة "نمر". \ الثالث من آذار \خريف 2000\عمان
|
|