ركض


مضى مسرعاً يحاول الانزواء ، ينظر خلفه لاهثاً مرتبكاً، يعتلي جبينه سيماء خوفٍ ما ، وحمرة وجهه تزداد ، عاجله صديقه (أيهم )و سأله :

-ماذا حل بك ؟ مم خوفك ؟ هل يلحق بك أحدهم ؟شاهدتك تركض عابراً الشارع غير آبهٍ بالمركبات ، كدت تصدم ، ما بك ؟

جلس بعد أن أطمئنّ لابتعاده، شبك يديه أمام ذقنه ، أخذ نفساً عميقاً ، و هو ما زال يلهث ، حاول أن يحجم عن الإجابة ، لكنه لم يستطع عندما شاهد "أيهم" ينظر إليه بدهشةٍ و هلع ، ردد بنغمةٍ متوترة :

-لا أعرف لماذا فعلت ذلك ، لا أدري ماذا أخبرك !ربما لا أستطيع .!!

زادت عندها ريبة أيهم ، فاستبق استفساراً آخر :

-( عرفات ) ، لم أرك هكذا خائفاً طيلة حياتي ، أخبرني ما بك !

نزل عندها أرضاً ، ضم ساقيه إلى فخذيه و أحاط ركبتيه بذراعيه كأنه يربطهما بصدره ، وبدأ يروي بنبرةٍ لا تخلو من شجنٍ و ندم :

-لم أقصد أن أفعل ذلك ، إلا أنني وجدت نفسي مضطراً ، قاطعه أيهم يستعجله :

-آه ماذا حصل ؟؟

-كنت أريد أن أهاتف عائلتي ، لأطمئنّ على أخي ، متوعكٌ هو كما تعلم .؟

- آه نعم أدري ماذا بعد ؟؟؟

- كانت وجهتي نحو مركز الإتصالات ، اسمه مركز ....... لا أذكر ...

لم يطق أيهم حديثه المفصل ، فانتهره صارخاً :

-آه يا عرفات و بعدين ......؟

عدّل ياقته التي استمالت من الأزرق للرمادي لكثرة ما تشربت من تعرقّات رقبته ..تابع :

-انتظرت دوري في المركز ، حتى تفرغ حجرة الهاتف بعد أن أعطيت ( للسنترال ) الرقم ، توجهت للحجرة بعد أن خرج منها شابٌ في  الثلاثين من عمره تقريبا ، وجدت آنذاك على دفّة الجهاز مئة دولار ، كان قد نسيها ، التقطهتا ، و رصصتها في حذائي ، وخرجت راكضاً ، سمعته  و هو يعدو خلفي -في آخر الشارع - ينادي محاولاً اللحاق بي ، كان يقول لي :

-أرجوك قف المبلغ ليس ملكي إنه عهدتي .

بذلت كل وسعي فارّاً ، أسرعت مطلقاً العنان لبصري للخلف ، حتّى اختفى الرجل خلف جموع الناس و أسراب السيارات .

استوقفه أيهم مستفسراً :

-ألم يلق لك أحدٌ بالاً ؟؟لماذا لم يمسكك أحد العادين أو الأهالي ؟؟ثمّ، أهي عهدته فعلاً ؟

-لا أدري . شعرت بذلك من صوته . و أحسست أني الوحيد الذي يسمعه يصرخ . تمنيت لو أمسك بي أحدهم ، ليثبت لي أني ما زلت في البلدة ...!!

-لماذا لم تعدها له إذن؟ أنت لا تفعل ذلك ! هدهد على كتفه و أربت كفه على رأسه و مسد شعره ، ثم استقام واقفاً و امسك بذراعه ليستنهضه ، سمع غمغماتٍ تصدر منه ، سحب عرفات ساعده من يد أيهم  و أجهش بالبكاء ، مضوا باحثين عن الرجل ، إلا أنهم لم يجدوه ، جلسوا لأخذ قسطٍ من الراحة ، اعتقد أيهم أن صديقه استملكه الجرم و الخطيئة ، و أراد التوثّق من ظنّه ، فاستوضحه :

-ولكن لم تخبرني ، ما الذي جعلك تركض ؟ هاتها ، أعطني تلك النقود ، .............

 

انحنى أيهم حتى وصل قدمي عرفات ، أمسك بحذائه ليخلص للنقود ، انتزعه ، لم يحرّك عرفات نفسه ، كأنه سيجيب بسكوته ، عرف عندها أيهم السبب ؛؛؛..........

خرقٌ يكاد ينصّف جوربه ، كأنه يرتدي نصف جورب ، رفع نظره نحو عرفات ، أزاح عرفات وجهه ، غطّى وجه عرفات سيلٌ من دموعٍ ، سقطت دموعه تباعاً ترسم حسرةً عظيمة ....

 

 

عودة