فيرون بعد أن ينتهي
موسم تزاوج القطط ، تشرع في عزف لحن موائها
الأخير ،و تبدأ حينئذٍ بوادر الشقاق بين كل
زوجين منها ، و بعد أن ، تتناثر هنا و هناك
قطّةٌ تضع و أخرى تأكل ما تضع ، وثالثةٌ تهرب
مما تضع ، و غيرهن ممن تقضي أثناء الوضع . ومع مرور شهرين
أو أكثر بقليل ، تبدأ ندف الثلج بالتواري ، و
يتوارى معها آخر الأنفاس الباردة ، و تراق
دماء آخر الزفرات البيضاء في النفوس ، تسكت
أصوات الفحم المطقطق في مراجل المدافيء ، و
ينسل الشتاء كشبحٍ رعديدٍ جبان . تنقر خواتيم
الأمطار على عليّة البيت ، يمامٌ يزهو قائداً
العيون إلى يومٍ كيوم الحشر ، يتزاور الناس
أكثر ، وصلة الرحم على أشدّها ، لا يعطيك
المشهد اعتقاداً أن الجزاء و الثواب له أدنى
مساس بالتقارب اللاواعي للبشر ، بعد شتاءٍ
يحكم القبضة على مدار مئةٍ و خمسين يوماً ، بل
هو على الأغلب نفاذٌ و خلاص من سطوةٍ شتائية ،
تقمع الرائح و الغادي بعواصف لا مناص منها إلا
أن تغلّق كل منافذ الهواء إلى بيتك و تجاور -داخل
منزلك- جلّ ما تستطيعه من نيران و مواقد . و تتنادى القطط -مرة
أخرى - في غير مكان ، يأخذك زقاق صغير ، حتى تقع
أبصارك على ((فيرون))، قطٌ شرسٌ دمويّ ، عاث
فساداً في بيت الجارة (ماريّا) حتى ضاقت به
فألقته للشارع ، يناكف المارّة و يعكر صفو
القطط الأخرى ، كانت ماريا تبين للجارات
دائماً أنها كانت ستسميه ( نيرون) إلا أن إصرار
زوجها كان لإبقاء اسمه كما هو . عام يمر على
فيرون و هو يبسط قدميه تحته و يرمي بيديه
أمامه و يراقب من يلوح بظله على مقربةٍ منه ،
يلاحق أيّاً كان بعيون رماديّةٍ مستديرة ،
يغمضها نصف إغماضة ، و يفتح فاه إذا ما سكن
جفونه النعاس ، يتثاءب و يعيد رأسه بين يديه و
يغفو . وأمام بهوٍ قديم
، يستقبل نهاراً جديداً قبل أن تصدح مآذن
المساجد بآذان الفجر ،يفرك فراء رقبته
بأقدامه ، ينفر موقفاً شعر ظهره ، و ينتفض
منيئاً عن نفسه قذارة ليلةٍ منصرمة ، يقول عنه
أهل الحي أن عيونه تطفح شراً، و أن شعر جسمه
كأنما قد صبغه من الشمس و أن له صوتان ؛ صوتٌ
أنعم من الريش ، إذا ما أراد أن تطعمه أو أن
تمنحه شيئاً ، و إن غضب أو اعتدي على مكان
رقوده فإن له صوتاً حادّاً كإبر الصبّار و
أشواك الفيافي . أجلس على شرفتي
لمراقبته في عطلة نهاية الأسبوع ، و جموع
العابرين يمرون بمحاذاته ، لا يشاهدونه أو
يكادون ، يلغونه تماماً ، ( لا بدّ أن ينتقم
يوماً لكينونته ) : أقول لنفسي .، يرفع ذيله
السميك إن لاحت في المكان قطة غريبة ، و يغادر
مكانه لاحقاً بها في بعض الأحيان إذا شدّه
توقدها و بهاؤها وينساب تاركاً الحيّ و لا
أراه إلا عند أوبته للرقاد . -ألا ما حوله
غريباً ؟ نوافذ ، جدران ، ستائر ، حبال غسيلا
مليئة و فوقها قطع قماشٍ بألوان و أحجام
متباينة . وحيث ينام ، وفي
نهاية اليوم تعوّد أن يركل بقدم مستضيفه
القديم "ناظم" زوج
(ماريا ) وهو يحمل بيمينه قينة مشروبٍ غازيّ
و تحت إبطه زجاجة "كونياك". -تنحّ عن طريق ،
لا بارك الله فيك . يموء بحنقٍ و
يبتعد حتى يمر هذا الزائر الليلي ، يرمقه ،
أخاله يريد أن يرد عليه الدعاء ، يعود و نبطح
مرة أخرى ، و يغفو . يعبر بجانبه صبي
بسروال زيتي واسع ، و يلقي عليه حجراً
يكاد يفجّه ،أخاله يريد أن يردّ عليه الرمية
أيضاً . تمرّ عجوزٌ
يتوسط فمها سنٌ ذهبية ، تعتمر قبعةً سوداء ، و
تحمل كيسين ، تفتح أحدهما و تخرج منه علبة(
تونة) ، تفتحها و تضعها أمامه ، ربما لا تعرفه
!!! ، لأنها ليست من الحيّ، و أحسبه يريد قول
شيء هاهنا أيضا ، يلعق و يأكل و يأكل و يأكل ،
حتى يعود للغفوة ثانيةً . أجبرني صوت
المذياع على ترك مراقبته ظهر يوم الجمعه ، و
دلفت عبر الصالة حتى وصلت لمصدر الصوت ، حيث
مذياعي و أصوات بيانات ، و أنباء عن اجتياحات
واسعة، و غزو استعماري ، و استنفارٌ يدب في
ساحة الحي ، الأطفال يتراكضون خلف عائلاتهم و
الجيران جميعهم يهربون ، ماريا و ناظم ، حسنة
و زياد ، كريم و زوجته الجديدة ، ذعرٌ و هياج ،
أصحاب المحلات يأخذون غلاتهم و ينزوون ، و
الصبايا يحملن علب المجوهرات و يمضين عبر
الحي فزعات , . عاودت للمذياع و
حاولت تشغيل التلفاز و زاد هلعي أن التيار
مقطوع ، قررت ألا أغادر و لا أهرب معهم حتى
أفهم ماذا حلّ بهم ، نصف ساعةٍ كانت كفيلةً
بإخلاء الحي لا صوت ولا صدى و الحيّ أشبه
بالأجداث ، الأحواش فارغةٌ إلا من أقفاص
الطيور و المشربيات لا وجه يطلّ منها ، و
البنى و المعمار وحده يشهد على وجودٍ للبشر
هاهنا . حالة النفير تلك
لم تبقي و لم تذر ، خلّف الصبية ورائهم (
الدحلات ) و الكرات البلاستيكية و تركت النساء
كل ما يتشدقن به من ملابس و أواني و فخاريّات و
أثاثٍ و شتلات نادرة و زهورٍ لم يجلب مثلها
إلاهن .و إصّيصات تزخر بها نوافذهم ، تركوا كل
دواعي البذخ و أحلام الصبى الغضة و شدّوا
قبضاتهم حول قمصان و ياقات أزواجهن و نفروا…………………………… دخلت الساعة على
السادسة و لمّا أكن قد توصلت للأسباب بعد،
أسباب ما حصل ؟! تيقنت مما كنت قد فكرت فيه
أيام صباي ، أن الدنيا لا تزاول مكانها إلا
إذا حركناها نحن ………………………………… و في الثامنة
مساءً ، عادت الكهرباء عودةً غير ميمونةٍ على
الإطلاق ، إذ بدأ جنودٌ و ضباطٌ مسلحون بإعادة
وصل الأسلاك المقطوعة ، و اختبار أعمدة النور
، نبشوا كل المحلات التجارية و حملوا
سياراتهم بما وقعت عليه عيونهم و استحسنوه ،
خلعوا جميع اللافتات و الملصقات القديمة و
زرعوا مكانها صوراً لقادتهم ، دخلوا جميع
البيوت و انتهبوا كل مقتنياتها الثمينة ،
اضطررت للاختباء في القبو القديم ، مرتجفاً
مذعوراً ، كسروا كل الواجهات بأجسادهم ،
تصورت أنهم لا تقدر عليهم سماءٌ ولا بشر ،
علوجٌ سمانٌ ، النتانة تثب من أذقانهم و "بساطيرهم"
في آنٍ واحد . أزاحوا كل شيءٍ
أمامهم ، ركلوا كل شيءٍ . و لم يبق أحدٌ لينتقم
لي و لأبناء الحي ، صرخةٌ واحدةٌ أعادت لي
الحمية و الفخار ، ما زال أحدٌ ما هناك : (فيرون)، ما زال
مرابطاً هناك في مكانه ………
السابع
و العشرين من آب 2001
|
|